سورة الزمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


قلت: {كتاباً}: بدل من {أحسن}، أو: حال، لوصفه بقوله: {متشابهاً}. و{مثاني}: صفة أخرى لكتابِ، أو: حال أخرى منه، أو: تمييز من {متشابهاً}، كما تقول: رأيت رجلاً حسناً شمائلَ، أي: شمائله، والمعنى: متشابهة مثانيه. و{تقشعر}: الأظهر أنه استئناف، وقيل: صفة لكتاب، أو: حال منه.
يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ} وهو القرآن؛ إذ لا حديث أحسن منه، لا تمله القلوب، وتسأمه الأسماع؛ بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة. رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلُّوا ملةً، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا حديثاً، فنزلت. والمعنى: أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث.
وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ، وبناءِ {نزّل} عليه، من تفخيم أحسن الحديث، ورفع محله، والاستشهاد على حسنه، وتأكيد إسناده إليه تعالى، وأنه من عنده، لا يمكن صدوره من غيره، والتنبيه على أنه وحي معجز، ما لا يخفى.
حال كونه {كتاباً مُتشابهاً} أي: يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة، أو: تشابهت معانيه بالصحة، والإحكام، والابتناء على الحق والصدق، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة، وتجاوب نظمه في الإعجاز. {مَّثَانِيَ}: جمع مثنى، أي: مكرر، ومردد، لما ثنى من قصصه، وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ووعظه. وقيل: لأنه يثنّى في التلاوة، ويُكرر مرة بعد أخرى. قال القشيري: ويشتمل على نوعي الثناء عليه، بذكر سلطانه وإحسانه، وصفة الجنة والنار، والوعد والوعيد. اهـ.
{تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم} أي: ترتعد وتنقبض، والاقشعرار: التقبُّض، يقال: اقشعرّ الجلد: إذا انقبض، ويقال: اقشعر جلده ووقف شعره: إذا عرض له خوف شديد، من منكر هائل دهمه بغتة. والمعنى: أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً، ورهبتهم رغبةً، وذلك قوله تعالى: {ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله} أي: ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله.
{ذلك} أي: الكتاب الذي شُرِح أحواله {هُدَى اللهِ يهدي به مَن يشاءُ} أن يهديه، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة، ودلائل كونه من عند الله. {ومَن يُضللِ اللهُ} أي: يخلق فيه الضلالة، بصرف قدرته إلى مبادئها، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده، أو: مَن يخذله {فما له من هَادٍ} يُخلصه من ورطة الضلال. أو: ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده، {ومَن يُضلل} أي: ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته؛ لقسوة قلبه، وإصراره على فجوره {فما له من هادٍ}: من مؤثر فيه بشيء قط.
الإشارة: أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله، والتمتُّع بحلاوة تلاوته، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان، ثم بالقلب، ثم إلى الفكرة، ثم العكوف في الحضرة، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات، وإلا بقي في مقامه الأول.
وقال الطيبي: مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن، أوقع في قلبه الخشية، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم يتأثر منه ظاهراً، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة؛ لضعفه، وقوة سطوة الوارد، فإذا أدمن على سماعه، وأَلِفَ أنواره، يطمئن ويلين ويسكن. اهـ. قلت: وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه: (كذلك كنا ثم قست القلوب) أي: صلبت وقويت على حمل الواردات.
وقال الورتجبي: سماع المريدين بإظهار الحال عليهم، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون. اهـ. وقال على قوله: {متشابهاً}: إنه أخبر عن كلية الذات والصفات، التي منبعهما أصل القدم، وصفاته كذاته، وذاته كصفاته، وكل صفة كصفة أخرى، من حيث التنزيه والقدس والتقديس، والكلام بنفسه متشابه المعاني. اهـ. يعني: إنما كان القرآن متشابهاً؛ لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة، والصفات تشبه بعضها بعضاً في الدلالة على التنزيه والكمال، أي: كتاباً دالاًّ على كلية الذات المشابهة للصفات. وهذا حملٌ بعيد.


قلت: {وقيل}: عطف على {يتقي}، أو: حال من ضمير {يتقي}، بإضمار قد.
يقول الحق جلّ جلاله: {أفمَنْ يتقي بوجهِهِ} الذي هو أشرف أعضائه {سوء العذاب} أي: العذاب السيىء الشديد {يومَ القيامة} كمَن ليس كذلك، بل هو آمن، لا يعتريه مكروه، ولا يحتاج إلى اتقاء، بوجه من الوجوه، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه؛ لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه. قال القشيري: قيل: إن الكافر يُلقى في النار، فيلقاها أولاً بوجهه؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً؛ فأما المؤمن المُوقَّى ذلك؛ فهو المُلقَّى بالكرامة، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ. اهـ.
{وقيل للظالمين}: يقال لهم من جهة خزنة النار. وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق. ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم، والإشعار بعلة الأمر في قوله: {ذُوقوا ما كنتم تكسبون} أي: وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا، من الظلم بالكفر والمعاصي.
{كذَّبَ الذين مِن قبلهم} من الأمم السالفة، {فأتَاهمُ العذابُ} المقرر لكل أمة {من حيث لا يشعرون} من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها. {فأذاقهم اللهُ الخزيَ} أي: الذل والصغار {في الحياة الدنيا}، كالمسخ، والخسف، والقتل، والأسر، والإجلاء، وغير ذلك من فنون النكال، {ولعذابُ الآخرة} المعد لهم {أكبرُ}؛ لشدته ودوامه {لو كانوا يعلمون} أي: لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به.
والآية، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش، فالضمير في {قَبْلِهم} يعود إليهم؛ لأن قوله: {ومَن يُضلل الله}... إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش. وقال أبو السعود: هو استئناف، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي. اهـ.
الإشارة: الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة، أو سيما المعرفة، ظهرت عليه، فيتنورُ ويبتهج، وإن كانت ظلمة المعاصي، أو كآبة الحجاب، ظهرت عليه، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط، وهو بحر الأحدية. وقوله تعالى: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون}، قال القشيري: أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً. وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة، وهو أنكى للفؤاد، وأشدُّ في التأثير، وأوجعه للقلوب، وفي معناه أنشدوا:
فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ *** فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا
وأتمُّ السرور وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة، حتى قال بعضهم: أشد السرور غفلة على غفلة، وأنشدوا:
بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي *** سابحٌ في فؤاده وفؤادي
جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا *** هكذا بغتةً بلا ميعاد


قلت: قرآناً: حال مؤكدة من {هذا}، على أن مدار التأكيد هو الوصف، كقولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً.
يقول الحق جلّ جلاله: {ولقد ضَرَبْنَا} أي: وضحنا {للناس في هذا القرآنِ من كل مَثَل}: يحتاج إليه الناظر في أمر دينه، {لعلهم يتذكرون} أي: كي يتذكروا به ويتعظوا، حال كونه {قرآناً عربياً}؛ لتفهموا معانيه بسرعة، {غيرَ ذي عوجٍ}: لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، فهو أبلغ من المستقيم، وأخص بالمعاني: وقيل: المراد بالعوج: الشك. {لعلهم يتقون} ما يضرهم في معادهم ومعاشهم.
الإشارة: قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج إليه المريد في سلوكه وجذبه، وسيره ووصوله، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق، وتبيين الحقائق. قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْءٍ} [الأنعام: 38] لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم في بحر الأحدية، وتغلغلوا في العلوم اللدنية، ومَن لم يبلغ هذا المقام يصحب مَن يبلغه، حتى يوصله إلى ربه، ولا يكون الوصول إلا بقلب مفردٍ، غير مشترك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8